قبل عدة سنوات… و في يوم من الأيام
كان جالساً بقربي في الحديقة العامة ، فتى في العشرينيات من عمره …
كنت حينها أتحدث على الموبايل
و عندما انهيت المكالمة التفت إلى شمالي
و إذا بذالك الفتى قد غادر المكان
و ترك ملفاً ازرق اللون مكانه أو بالأحرى نسيه
تفحصت الملف فوجدت أنه يحتوي على أوراق كثيرة ،
شهادة الميلاد و نسخة جواز السفر و أوراق تحمل خاتم السفارة البريطانية … يا للكارثة !! لابد ان هذه الأوراق مهة جدا بالنسبة لذالك الشاب
و لكنني لا أعرف من يكون ؟؟
بحثت في تلك الأوراق على أن أجد عنواناً يقودني إليه
و لحسن الحظ وجدته …
و فعلا ذهبت مسرعة إلى مقر سكنه
الذي لم يكن يبعد عن الحديقة العامة إلا بحوالي 3 كيلومتر
قرعت جرس الباب فخرج الفتى و قال : أهلا هل من خدمة ؟
سألت عما إذا كان هو الفتى الذي كان بالحديقة قبل ساعتين
فردت بالإيجاب ،
و بمجرد أن أعطيته الملف حتى طار من الفرح و قال : أشكرك كثيرا لقد كنت أعتقد أن كل جهودي قد ضاعت سدا بعدما فقدت الملف … أرجوك تفضل لنشرب كأسا من الشاي .
فقلت : لا … لا داعي لذلك ، كان ذالك من واجبي ، ثم انصرفت
لم أدري لماذا توقف دماغي عن التفكير عندما فتح الباب و رأيته …
لم يكن فتى عادي على الإطلاق ،
أحسست بأن هناك شيء يميزه عن الآخرين
رغم أنني لم أعرفها من قبل ،
كان شعره الأسود الحريري القصير منسدلا على وجهه
و عينيه الرماديتين مرسومتين بخط أسود رفيع
… لا… لم يكن السبب هو جماله فقط، كان شيئا أكبر و أعمق من ذالك . كما أخبرني حدسي الذي لا يخطء إلا ناذرا أنه مميز ، قررت في طريق العودة أن أشغل نفسي بالتفكير في شيء آخر و أطوي تلك الصفحة
بعد أسبوع … و بينما أنا في أحد المحال التجارية التقيته بالصدفة ، أحسست بقلبي يخفق بشدة و أوصالي ترتجف، خالجني شعور بالفرح يشوبه ارتباك بشكل مفاجئ ، حاولت تمالك نفسي و رسمت على وجهي ابتسامة صغيرة ثم سلمت عليه و بسرعة أخذنا على بعضنا… قبل أن نفترق اتفقنا على أن نلتقي في معرض الكتاب الذي كان يقام في مدينتنا آنذاك
لم أستطع أن أفكر في شيء غير ذالك اليوم الذي سنلتقي فيه ، و لم أدري لماذا انتابني إعجاب وانجذاب قويين اتجاهه، لابد انني فقدت صوابي !! مرت الساعات كالسنوات و أخيرا حان الوقت … فكرت في البداية أن أذهب باكراً لكن قلت في نفسي عليّ أن لا أتسرع وأن لا أظهر أي تهور فحاولت أن أتصرف بطريقة عادية
أحببت أن أناديه بإسم احمد ؛ التقينا بالمعرض و تحدثنا كثيرا عن الفن و الأدب و السياسة و العلوم ، كان هي أيضا يدرس بالكلية كانت تلك السنة سنة تخرجه ، ذهبنا إلى الكافيه فور مغادرتنا المعرض و تعرفت إليه أكثر طبعاً بشكل غير كافي لأنني أحببت أن أعرف عنه المزيد . بعدها كثرت لقاءاتنا كنا نفعل كل شيء معا : ندرس معا و نخرج معا ، نتسكع في الأزقة معا، نتناقش في الأمور التافهة و الجادة ، رغم أن شخصية كل منا كانت مختلفة عن الأخر و ذالك ما أضفى على علاقتنا طابعا مميز
كنت عندما أراه و أتحدث إليه أنسى العالم بأسره ، نعم أحببته بصدق و إخلاص و كنت مستعد للتضحية من أجله بأي شيء ، ذالك ما جعلني أتجنب – بطريقة لائقة – أن يضمني إلي ذراعيه أو يقبلني لأنه سيفعل ذالك بنية صافية لكنني لم أسمح لنفسي أن أخون ثقته بي خصوصا انه لا يعرف حقيقة مشاعري اتجاهه … عندما تحب إنسانا بصدق لا لأجل غرض مؤقت فإنك لا تحتاج ان يراقبك أي شخص لكي لا تخونه أو تخون ثقته بك ، فإخلاصك له حينها يكون نابع من قناعات ذاتية ، رغم أنني كنت في أشد الحاجة لأضمه إلي و أحس بالأمان الذي لم أحسه من قبل
كلما فارقته أحسست بوحشة قاتلة رغم وجود العديد من الناس حولي … لم أبحث في يوم من الأيام عن شخص يجعل سريري دافىء بل عن شخص يمنع تسرب البرد لداخلي و شعوري بالوحدة ، كان هو ذالك الشخص … أروع من أن توصف ، كان ذكياً جدا ، مثقفاً و لبقاً في تعامله و كان يفهمني قبل أن أتكلم ، كنت أضحك معه من كل قلبي و أبكي من كل قلبي و معها كنت “أنا” بمعنى الكلمة.
الشيء الوحيد الذي كان يؤرقني هو أنه لا يعرف أنني أحبه بجنون ، حاولت كم من مرة أن أصارحه بحقيقة مشاعري لكني لم أمتلك الشجاعة الكافية . لم أكن أخاف من شيء أكثر من أن أفقده إذا اكتشفت الحقيقة ، كنت سعيدة بها و تعيسة في نفس الوقت ، تعلقت بها أكثر مما ينبغي رغم علمي بأن المجتمع لا يرحم و ربما يكون هو من ذالك المجتمع بعد مرور عشرة أشهر على معرفتي به ، وأنا جالس في غرفتي أستمع للرائعة فيروز و أتحسر على نفسي قررت و بدون تراجع أن أصارحه بحبي له و ليكن ما يكن ، خرجت بدون أن أفكر لأنني إذا فكرت سأتراجع و ذهبت فورا إلى منزلها
لم أصدق مارأيت بعيني !!! لماذا تحزم حقائبه ؟؟
قال : ها ! جئت في وقتك كنت سأتصل بك لأني أردت أن أودعك قبل أن أسافر قلت : تسافر! إلى أين ؟؟ فرد و الفرحة تغمر عينيه : إلى لندن ، لقد أحضر لي عمي مساء أمس كل الأوراق اللازمة و جواز السفر لأكمل دراستي هناك
الملف ! نعم الملف ، الذي أعطيته إيَاه … ياليتني لم أفعل ،، ما هذا ؟ لماذا أنا أناني لهذه الدرجة
ما هذا ؟ لماذا أنا أناني لهذه الدرجة ؟؟ إنني أحبه في جميع الأحوال ، لم أعرف هل أضحك أم أبكي ، طبعا عانقته و أعربت له عن فرحي لأجله قال : هيا ساعدني في حزم حقائبي … كان جسمي يتحرك بصفة متناقضة مع أحاسيسي في تلك اللحظة و لم أستوعب حجم الصدمة التي تلقيتها … كنت أتمنى حينها أن أمتلك الجرأة الكافية لمصارحته أو منعه من السفر او أي شيء
أخرجنا الحقائب إلى السيارة التي كانت ستقلها إلى المطار، وقف أمامي و قال : سأشتاق لك كثيرا ، قلت لها أنني جئت كي أقول لها شيئا ما … فابتسم و نظر إلى عيني مباشرة و قال: طبعا
ساد داخلي صمت مخيف… أزحت بصري عنه و نظرت قليلا إلى الأرض ثم قلت : لقد كنت أريد أن أقول … أنني … أنا … أنا أ … أتمنى لك رحلة موفقة ،،،،،،، ودعني و هيو يمسك بيدي لآخر مرة و ركب السيارة … وقفت بلا حراك و أنا أرى السيارة تبتعد شيئا فشيئا و بدأت الدموع
تصبح اكثر فأكثر و انا اشتاق له منذ ذالك الحين !
.